كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن دولة الإسلام الأولى كان فيها رعايا من أهل الذمة وعندما اشتبكت في حرب مع الاستعمار الرومانى لم تفكر في تجنيدهم حتى لا تحرج ضمائرهم!! فقد يؤذيهم أن يخاصموا إخوانهم في العقيدة فيقتلون ويقتلون.. واكتفى الإسلام بإسهامهم المالى في نفقات الدولة.. وأقل ما ينتظره الإسلام وهو يحارب هذا الاستعمار الهاجم من الشمال ألا تكون هناك قلوب تتعاطف معه، وتؤمل في هزيمة المسلمين.. الفئة الثالثة ممن نهينا عن موالاتهم هم الساخرون من شعائر الإسلام المستهزئون بالصلاة والأذان. وقد وصفت الآية أحوالهم {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}. والواقع أنه من السفه السخرية من العبادات المقررة واتخاذ الأذان مادة للضحك! أى صداقة ينتظرها من يفعل ذلك؟ إلا صداقة خليع لا يعرف ربه، ولا يرقب ما عنده. وهناك من يغضبون أشد غضب عند ما يسمعون كلمات الأذان، ويتمنون لو سكت قائلها.. إن الإسلام أبعد دين عن الإكراه، وأتباعه أبعد الناس عن كراهية الآخرين إذا كانت نفوسهم سهلة وسرائرهم نقية {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}. ويمكن أن تقوم شركة تجارية بين مسلم وغير مسلم أساسها الأمانة والصدق. ويمكن أن تتكون أسرة من مسلم وأخرى غير مسلمة على قاعدة من الود المتبادل والرحمة! ويمكن أن تنشأ علاقات إنسانية حميمة بين أتباع أديان مختلفة بعيدا عن التظالم والغش والبغضاء. لقد حدد الإسلام المواضع التي أذن فيها للمؤمنين أن يغضبوا ويقاطعوا، فلتختلف الأديان فتلك مشيئة الله {ولذلك خلقهم}. ولكننا أمة تحترم نفسها، ومن حقها أن يحترمها الآخرون، وأن يقيموا علائقهم معها على العدل والأدب! فهل ذلك صعب؟.
إنه صعب على يهودى يظن البشر دونه بأصل الخلقة! صعب على متعصب يعتنق الأخطاء في حرية، ويضن على الآخرين أن يعتنقوا الصواب ويمروا بسلام!! وذاك ما عنته الآية الشريفة {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون}. والواقع أن مبدأ «الولاء والبراء» قائم على هذه الحقيقة، ولا أثارة فيه لقطيعة ظالمة أو تعصب ذميم! من حق أصحاب الإيمان ألا يستوحشوا به في الدنيا، بل ينبغى أن يألفهم، ويلتف بهم أمثالهم في الاعتقاد {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}. ومن شعائر الإسلام الحب في الله والبغض في الله ولكنه حب لا أثرة فيه وبغض لا ظلم معه. ومن خصائص الدين الحق أنه يتجاوز عن الخطأ العابر ويتشدد مع الشذوذ الفاجر. وقد تدبرت موقف نبينا صلى الله عليه وسلم مع «ماعز» فوجدته يحاول رده عن إقراره، ومسامحته في ظلمه لنفسه مادام قد تاب. غير أن ماعزا أبى إلا تطهير نفسه بالموت فكان له ما أراد. وكان عيسى عليه السلام يحاول مثل ذلك مع المرأة التي أتى بها اليهود لرجمها! فالقدر ليس بالمرصاد لكل عاثر يريد الإجهاز عليه، والأنبياء مصلحون لا جلادون. غير أن الفرق واسع بين الخطأ العابر والخطيئة الفاجرة، والفرق واسع بين زلة قدم وتقليد يتبع. وهو أوسع بين هفوة فرد وتشريع قائم. إن الأنبياء جميعا ضد الجريمة إذا تحولت إلى عرف عام ونظام سائد. والغريب أن أهل الكتاب قديما وحديثا تميزوا ببرود غريب أمام المعاصى... حتى أمست الحضارة الغربية مشحونة بصنوف الدنس مع صمت مطبق من الكهنة المشاهدين! ثم ألا يستحق التأمل الطويل أن ترى من هؤلاء من يكره الإسلام ويهادن الإلحاد؟ ومن يعلن الصلاة من أجل مرضى الإيدز! ولا يكترث أقل اكتراث لضحايا الصهيونية والاستعمار.
وقد تحدثت سورة المائدة في نحو أربع صفحات عن تناقض هؤلاء القوم وعن ضرورة استنكار ما يفعلون {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}. ولن يكون القوم أهل دين إلا إذا بقيت صلتهم بالتعاليم السماوية محسوسة، واحترموا ما بقى لديهم من تعاليم التوراة والإنجيل، وضموا إلى ذلك ما جاء به النبي الخاتم مصداقا لقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين}. إن الغيرة على محارم الله مطلوبة في الأديان كلها، والغيرة انفعال وتحديد مواقف وقياس مسافات. إن المؤمنين يرون الفلاسفة الإلهيين أدنى إلى الرشد من الفلاسفة الملاحدة، ويرون أصحاب الأخلاق أقرب إلى الشرف من طلاب اللذة... ولا ينقضى عجبى من أناس يسمعون صيحة لا إله والحياة مادة! وهم باردون جامدون. فإذا صاح مؤذن: الله أكبر انقلبت سحنتهم واربدت وجوههم لأن الصيحة الكريمة من أمارات الإسلام، وهى عندنا من الباقيات الصالحات..!! وقد عاب القرآن الكريم على الحاخامات والكرادلة موت العاطفة الصحيحة في دمائهم، وجاءت الآيات {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}. وتلا ذلك نهى عن موالاة العاصين واسترضائهم {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}. وهناك سنن نبوية لا حصر لها في هذه الشئون.
فى تعنيف أهل الكتاب على مداهنة الرذائل ومجاملة أصحابها كان لابد من الحديث عن العقائد الأصلية وعن جدوى الاستمساك بها! الناس عادة يسكتون على المعاصى فرارا من تبعات النصح، ويسكتون على الظلمة- وربما تملقوهم- حرصا على الدنيا ومنافعها! وكم يكلف قول الحق من متاعب! لكن المهم هو الثمرة الأخيرة. وخيانة الحق قد تعقب فائدة سريعة ما تكاد تجيء حتى تفنى ويبقى ذل الخيانة وإثم التفريط!! وما يظفر بالحياة الصحيحة والرضا النفسى والإلهى إلا من أحب لله وأبغض لله، ومن ثم قال الله تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..}. ولا تحسبن هذا النصح خاصا باليهود والنصارى، إن علماء الإسلام مطلوبون به قبل غيرهم لجسامة ما يحملون من أمانات.. ولا ريب أن السلوك الراشد ينبثق من إيمان صحيح ولذلك عاد الحديث مرة أخرى إلى عقيدة التوحيد وضرورة تحريرها من الشوائب. واليهود يعلنون إيمانا بالله الواحد، فهل فكرتهم عن هذا الإله صحيحة؟. وهل ينزهونه من كل نقص؟ وينسبون إليه كل كمال. وهل يرون أنفسهم بعض الناس الذين يتقدمون بالطاعة ويتخلفون بالمعصية؟. كلا لقد صادروا عقيدة الألوهية لحساب جنسهم وأصبح الإله حارسا لمزاعمهم ومنافعهم إنه إله خاص يرضيهم أكثر مما يرضونه!! ومن هنا لعبوا بمواثيقه وعاشوا في الدنيا عبئا على الشعوب {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}. أما النصارى فالغموض في إيمانهم شديد. والتناقض واضح..! وهم يقولون: ربنا يسوع المسيح! ويقولون عن مريم: إنها أم الإله!! ويقولون كذلك إن الأب إله أزلى وهو الذي أرسل ابنه للناس.
ويقولون عن جبريل روح القدس: إنه إله.. ثم يقولون: إن الكل إله واحد. {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم}. والنزاع المرير الذي يسود العالم الآن هو بين الإسلام الذي يصف الله بالوحدانية المطلقة، ويعد ماعداه في الأرض والسموات ملكا له، خاضعا لعز جلاله ومجده!! الملائكة والأنبياء والبشر كلهم يجثون خاضعين للواحد القاهر... وبين مسيحية استحدثها الغلاة، وعبدوا فيها ثلاثة، وزعموا بعدئذ أن الثلاثة واحد!! من أجل ذلك يتجه الخطاب الإلهى لمحمد {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}. ويظهر أن هذا النزاع سوف يبقى حتى قبيل الساعة، إذ ينزل الله عبده عيسى ليحسمه بإعلانه عبوديته لله، ومقاتلته من جعلوه لله ندا!! والفكر النصرانى منقسم على نفسه انقساما واسعا، وقد عرف العالم الحروب الدينية من خلال هذا الانقسام. وهى حروب ظلت عدة قرون سفكت فيها الدماء بغزارة، ولم ينج الناس من غوائلها إلا بعد تجريد الكنيسة من سلطان الدولة. ومع ذلك فقد اصطلحت المذاهب المعزولة وتجمعت في هذا العصر كى تكيد الإسلام!! فاليهود يقتلون عرب فلسطين، والهنادك والبوذيون يقتلون المسلمين في جنوب آسيا. والاستعماريون الجدد يقاتلون سائر المسلمين أو يشنون عليهم غزوات ثقافية واقتصادية! ونحن نتدبر بعمق هذه الآية الكريمة: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}. إن التاريخ يروى لنا ما حدث في عصر البعثة، كان مشركو مكة ويهود المدينة أشد الناس بأسا في عداوة الإسلام على حين كان المسلمون يؤملون الخير في نصارى الحبشة والروم! وقد صرحوا بأن هزيمة الفرس للروم مؤقتة! وأن إخوانهم أهل الكتاب سوف يكسبون المعركة التي خسروها، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله!
ثم إنه جاءت وفود مسيحية إلى مكة والمدينة واستمعت إلى الرسول يتلو كتابه فأعلنت إيمانها وقالت: {إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين}! والواقع أن الإسلام- بعد انكسار السلطة الرومانية- ورث آسيا الصغرى كلها وشمال أفريقية كله، فأضحت شعوب هذه المناطق مسلمة تدفع عن الإسلام وتعلى رايته. وتركت مسيحيتها الأولى راضية مقتنعة!! والآية التي ذكرناها تتحدث عن قوم أعلنوا إيمانهم وقالوا: {وما لنالآنؤمن بالله وما جاءنا من الحق}! لكن الذي حدث قديما عرض له ما وقفه! ومنذ ألف عام وحروب صليبية طاحنة تشن على المسلمين، وتنتقص أرضهم، وتهز كيانهم هزا..! وما يمكن أن يكون هؤلاء أقرب الناس إلى الذين آمنوا، إن الآيات تصف مشاهد مضت، فهل يجوز أن تتغير المشاهد؟. ربما ولاتزال جماهير في أوربا وأمريكا تبحث عن الحق، وترتاب فيما ورثت وما يصدها عن الدخول في الإسلام إلا الحال الزرية التي عليها المسلمون. فالمسلمون بلا شك صورة سيئة منفرة عن دينهم..! وبعد هذا الاستعراض للعلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب وردت آيات في بناء الجماعة الإسلامية تنهى مثلا عن المادية والرهبانية {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} وكأنها تريد تجنيب المسلمين ما وقع للماضين. ثم جاءت آيات حاسمة في تحريم الخمور والأوربيون والأمريكيون يضعونها على كل مائدة، فهى كالماء أو بديل له!! كما وردت تشريعات في حماية المشاعر المقدسة، ورفض الجدل الدينى واللغط الذي يدور بين المتدينين.. وضرورة التمسك بالكتاب والسنة فإن بعض الناس {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}؟ والسورة تسمى سورة العقود كما ذكرنا من قبل فلا غرابة إذا تضمنت أنواعا من الإلزام.. على أنها ختمت بأمرين: أولهما عودة إلى مخاطبة النصارى في أن يخلصوا إيمانهم، وينقوا التوحيد المحض من الأوهام التي لبسوها به.
وتضمن الخطاب مساءلة لعيسى ابن مريم {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}؟ وطبيعى أن يبرأ عيسى من صنيع قومه من بعده {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} والحق أنه لا إله إلا الله، وأن ماعداه عبد له ولكن الكنائس المختلفة تمارى في ذلك مراء شديد، بل هي تنتهز فرصة ضعف المسلمين لتمحو الحق المبين! أما الأمر الذي ختمت به السورة فهو تذكير القارئين بكل ما حوت من عقود وعهود، هل حفظوها ووفوا بها وقاموا عليها؟... ليست بين بشر ما وبين الله علاقة خاصة، وسيجئ يوم يحشر الناس فيه إلى حساب دقيق. ويقال: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} هل لأحد مع الله ملك؟ كلا {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} هذه سورة المائدة، أو سورة العقود، وهى من أواخر ما نزل من القرآن الكريم... متصلا بالتشريع. اهـ.